شرح الوصية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية
رؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى- نعم رؤية الله بالأبصار هي للمؤمنين في الجنة، وهي أيضا للناس في عرصات القيامة كما تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: رسم> إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب، وكما ترون القمر ليلة البدر صحوا ليس دونه سحاب متن_ح> رسم> وقال صلى الله عليه وسلم: رسم> جنان الفردوس أربع: جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وجنتان من فضة وآنيتهما وحليتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن متن_ح> رسم> .
وقال صلى الله عليه وسلم: رسم> إذا دخل أهل الجنة الجنةَ نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه. فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا؟! ويثقل موازيننا؟! ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟! فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة متن_ح> رسم> .
وهذه الأحاديث وغيرها في الصحاح قد تلقاها السلف والأئمة بالقبول، واتفق عليها أهل السنة والجماعة، وإنما يكذب بها أو يحرفها الجهمية ومن تبعهم من المعتزلة والرافضة ونحوهم الذين يكذبون بصفات الله تعالى وبرؤيته وغير ذلك، وهم المعطلة شرار الخلق والخليقة.
ودين الله وسط بين تكذيب هؤلاء بما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم في الآخرة، وبين تصديق الغالية بأنه يرى بالعيون في الدنيا وكلاهما باطل، وهؤلاء الذين يزعم أحدهم أنه يراه بعيني رأسه في الدنيا -وهم ضلال كما تقدم- فإن ضموا إلى ذلك أنهم يرونه في بعض الأشخاص إما بعض الصالحين أو بعض المردان أو بعض الملوك أو غيرهم عظم ضلالهم وكفرهم، وكانوا حينئذ أضل من النصارى الذين يزعمون أنهم رأوه في صورة عيسى ابن مريم اسم> بل هم أضل من أتباع الدجال الذين يكون في آخر الزمان، ويقول للناس: أنا ربكم. ويأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، ويقول للخربة: أخرجي كنوزك. فتتبعه كنوزها.
وهذا هو الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم أمته وقال: رسم> ما بين خلق آدم اسم> إلى قيام الساعة فتنة أعظم من الدجال متن_ح> رسم> وقال: رسم> إذا جلس أحدكم في الصلاة فليستعذ بالله من أربع؛ ليقل: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال متن_ح> رسم> فهذا ادعى الربوبية، وأتى بشبهات فتن بها الخلق، حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: رسم> إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت متن_ح> رسم> فذكر لهم علامتين ظاهرتين يعرفهما جميع الناس، لعلمه صلى الله عليه وسلم بأن من الناس من يضل فيجوِّز أن يرى ربه في الدنيا في صورة البشر كهؤلاء الضلال الذين يعتقدون ذلك.
وهؤلاء قد يسمون الحلولية والاتحادية، وهم صنفان: قوم يخصونه بالحلول أو الاتحاد في بعض الأشياء كما يقوله النصارى في المسيح اسم> -عليه السلام- والغالية في علي اسم> -رضي الله عنه- ونحوه، وقوم في أنواع من المشايخ، وقوم في بعض الملوك، وقوم في بعض الصور الجميلة، إلى غير ذلك من الأقوال التي هي شر من مقالة النصارى.
وصنف يعممون فيقولون بحلوله أو اتحاده في جميع الموجودات حتى الكلاب والخنازير والنجاسات وغيرها، كما يقول ذلك قوم من الجهمية ومن تبعهم من الاتحادية كأصحاب ابن عربي اسم> وابن سبعين اسم> وابن الفارض اسم> والتلمساني اسم> والبلياني اسم> وغيرهم.
ومذهب جميع المرسلين ومن تبعهم من المؤمنين وأهل الكتب أن الله سبحانه خالق العالمين، ورب السماوات والأرض وما بينهما ورب العرش العظيم، والخلق جميعهم عباده وهم فقراء إليه، وهو سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، ومع هذا فهو معهم أين ما كانوا كما قال سبحانه وتعالى: رسم> هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قرآن> رسم> .
فهؤلاء الضلال الكفار الذين يزعم أحدهم أنه يرى ربه بعينيه، وربما زعم أنه جالسه وحادثه أو ضاجعه، وربما يعين أحدهم آدميا إما شيخا أو صبيا أو غير ذلك ويزعم أنه كلمهم يستتابون، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم وكانوا كفارا؛ إذ هم أكفر من اليهود والنصارى الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم اسم> فإن المسيح اسم> رسول كريم وجيه عند الله في الدنيا والآخرة ومن المقربين، فإذا كان الذين قالوا: إنه هو الله، وأنه اتحد به أو حل فيه قد كفرهم وعظم كفرهم، بل الذين قالوا إنه اتخذ ولدا، حتى قال: رسم> وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا قرآن> رسم> فكيف بمن يزعم في شخص من الأشخاص أنه هو؟
هذا أكفر من الغالية الذين يزعمون أن عليا اسم> -رضي الله عنه- أو غيره من أهل البيت هو الله، وهؤلاء هم الزنادقة الذين حرقهم علي اسم> -رضي الله عنه- بالنار، وأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة اسم> وقذفهم فيها بعد أن أجلهم ثلاثا ليتوبوا، فلما لم يتوبوا أحرقهم بالنار، واتفقت الصحابة -رضي الله عنهم- على قتلهم، لكن ابن عباس اسم> -رضي الله عنهما- كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر العلماء، وقصتهم معروفة عند العلماء.
يتكلم شيخ الإسلام -رحمه الله- في هذا المقطع أولا: على رؤية الله تعالى في الآخرة, كما وردت في ذلك الأحاديث, ورد أن الله تعالى يتجلى لعباده المؤمنين, ويتجلى لعباده في الموقف, وأنهم يعرفونه ويسجدون له, رسم> يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ قرآن> رسم> يسجد المؤمنون ولا يستطيع المنافقون, وهذه رؤية خاصة بالمؤمنين, وفيهم منافقون.
ولكن الرؤية التي فيها رؤية النعيم المقيم والتي يتلذذ بها أهل النعيم هي: رؤيته في الجنة, التي ورد ذكرها في القرآن, وورد ذكرها مفصلا في السنة, يستدل عليها من القرآن بقوله تعالى: رسم> وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ قرآن> رسم> فالنظر هو: الرؤية، وفي قوله: رسم> عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ قرآن> رسم> وبقوله تعالى في حق الكفار: رسم> كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ قرآن> رسم> مفهومها أن المؤمنين غير محجوبين, ففي هذه الآيات دليل على أن الله تعالى يتجلى لعباده المؤمنين, وأنهم يرونه في الآخرة, وأن ذلك من أكبر النعيم.
واستدل أيضا بالأحاديث الصحيحة, ذكر شيخ الإسلام منها جملة كقوله: رسم> إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر متن_ح> رسم> يقول: روى هذا الحديث جرير بن عبد الله البجلي اسم> ورواه عن جرير اسم> تلميذه الذي هو قيس بن أبي حازم اسم> وقيس اسم> هذا يعتبر صحابيا؛ .. لأنه أسلم في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يره, فهو مخضرم, وأخذ عن أكابر الصحابة, ورواه عن قيس اسم> جماعة كثيرون, ومنهم إسماعيل بن أبي خالد اسم> ورواه عن إسماعيل اسم> أكثر من مائة راو, سردهم ابن القيم اسم> في حادي الأرواح, مما يدل على أنهم تلقوه بالقبول, ولم يستنكروه, فهو حديث صحيح.
كذلك الحديث الثاني, وهو قوله -صلى الله عليه وسلم- رسم> جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما, وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما, وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبر على وجهه في جنة عدن متن_ح> رسم> فإنه عام في أن أهل الجنتين اللتين من ذهب, وأن أهل الجنتين اللتين من فضة, كلهم يرون ربهم إذا كشف هذا الحجاب, الذي هو رداء الكبرياء, يكشفه فيرونه كما يشاءون.
كذلك حديث أبي هريرة اسم> وأبي سعيد اسم> وفيه قوله -صلى الله عليه وسلم- لمن سأله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: رسم> هل تضارون في رؤية الشمس ساطعة ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا, هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا, قال: فإنكم ترونه كذلك متن_ح> رسم> ومعلوم أن هذا تشبيه للرؤية بالرؤية, لا للمرئي بالمرئي, ليس تشبيها لله تعالى بالشمس؛ فإنه ليس كمثله شيء.
كذلك الحديث الذي ذكره أيضا, الذي فيه أن الله تعالى يقول لأهل الجنة: رسم> إن لكم موعدا عند الله, وهو يريد أن ينجزكموه, فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا, ويثقل موازيننا, ويدخلنا الجنة, وينجنا من النار, فعند ذلك يكشف الحجاب فينظرون إليه, فما أعطوا أفضل من النظر إليه, وهو الزيادة متن_ح> رسم> يعني: قوله تعالى: رسم> لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ قرآن> رسم> في سورة يونس, فسرت الزيادة في حديث مرفوع بأنها النظر إلى وجه الله تعالى.
فالحاصل أن النظر إلى وجه الله تعالى من نعيم أهل الجنة, فهذا ورد في الصحيح, الذي هو نوال لأهل الجنة .....
مسألة>